ثقافةمدونتي

القلب بوابة الروح والعقل

القلب بوابة الروح والعقل: منذ فجر الحضارة الإنسانية، كانت دقات القلب تُعتبر رمزاً للحياة بحد ذاتها. حتى قبل أن نفهم دوره الوظيفي في الجسم أو نكتشف الدورة الدموية ودور الرئتين فيها، كان الإحساس بالنبض علامة على أن الكائن حي . وعلى النقيض، كان غياب هذا النبض المتواتر يعني شيئاً واحداً (الموت).

ماهو القلب |القلب بوابة الروح والعقل

القلب، هذا العضو العضلي الجوفي الذي يتألف من أربع حجرات مملوءة بالدم، قد يبدو لنا الآن كجزء من منظومة حياتية نعرفها جيداً، إلا أن قيمته تجاوزت عبر التاريخ مجرد دوره الفيزيولوجي. لطالما ارتبط القلب بمعانٍ أعمق، فهو رمز للحياة والمشاعر على حد سواء.

الفيلسوف الفرنسي بلايز باسكال قدّم رؤية فلسفية حول القلب بقوله: “للقلب منطقه الخاص الذي لا يدركه العقل”. هذه الفكرة لا تزال تلهمنا حتى اليوم؛ إذ تجعلنا ندرك أن البحث عن الحقيقة ليس حكراً على العقل وحده. بل يحتاج إلى إشراك القلب وفهمه العاطفي الذي لا يخضع لقوانين المنطق التقليدي.

على الرغم من التطور العلمي، لا تزال المجازيات المرتبطة بالقلب جزءاً من حياتنا اليومية. قد يعود ذلك إلى الغموض الذي يكتنف المشاعر وأصولها. فعلى الرغم من أن المخ هو مقر التفكير والعقلانية، نجد أنفسنا نعتمد على القلب في التعبير عن أحاسيسنا. نستخدم تعبيرات مثل “قلبه طيب” لوصف شخص كريم أو “عديم القلب” لوصف شخص قاسٍ، ونقول عن شخص “عنده قلب” عندما نظهر إعجابنا بشجاعته. هذه العبارات ليست جديدة، بل تمتد جذورها إلى عمق التاريخ.

القلب، إذن، ليس مجرد عضو وظيفي؛ بل هو رمز يمتد إلى أبعد من الجسد ليعكس ما هو أعمق في الإنسان: الروح، المشاعر، والشجاعة.

تاريخ القلب عند المصريين والإغريق والعرب:

في الميثولوجيا المصرية القديمة، كان للقلب دور محوري، لا سيما في سياق يوم الحساب. فقد طوّر المصريون القدماء منظومة دينية وأخلاقية معقدة لفهم الحياة الدنيا والعالم الآخر، حيث اعتُبر القلب ركيزة أساسية للحياة الأرضية ودليلاً أخلاقياً. يساعد الفرد في تمييز الصواب من الخطأ ويعتبر بوصلته الأخلاقية.

في المشهد الختامي للحساب، كما جاء في كتاب الموتى، نجد الإله أنوبيس يحمل قلب المتوفى ويضعه على كفة ميزان. بينما تستقر في الكفة الأخرى ريشة الإلهة ماعت، رمز الحق والعدالة. إن كان القلب أثقل من الريشة، فهذا يشير إلى أن صاحبه قد عاش حياة مليئة بالخطيئة، فيكون مصيره الهلاك الأبدي. أما إذا كان القلب أخف من الريشة، فإن هذا يدل على نقاء القلب وصلاح الشخص في حياته. ومن ثم يستحق النجاة ودخول العالم الأخروي وفقًا لحكم الإلهة ماعت.

هذا التصور يفسر سبب حفاظ المصريين القدماء على القلب خلال عملية التحنيط. بينما كانوا يتخلصون من المخ، الذي لم يكن له أي دور رمزي أو أهمية في الحياة الآخرة. ففي عالم ميثولوجي ووظيفي دقيق مثل العالم المصري القديم، لم يكن يُحتفظ إلا بما يعود بالنفع على الروح في رحلتها إلى الحياة الأخرى. وكان القلب هو المفتاح لضمان الخلاص والخلود.

رأي الإغريق بالقلب:

عرّف الفيلسوف الإغريقي أرسطو القلب على أنه مصدر كل ما يفكر فيه الإنسان، فهو مركز التفكير والذكاء والمشاعر. بالنسبة لأرسطو، كان القلب يحتل مكانة محورية تشبه إلى حد كبير ما نعتبره اليوم من وظائف المخ. غير أنه رأى أن المخ ليس له سوى دور ثانوي في جسم الإنسان. إذ كان يعتقد أن المخ والرئتين وُجدا فقط لتبريد القلب وتهويته، خاصةً أن حرارة القلب ترتفع بفعل التفكير والمشاعر.

أرسطو، كواحد من أبرز الفلاسفة في أثينا القديمة، أثّر بعمق على الفكر الفلسفي والعلمي. ولم يكن يتردد في تقديم ملاحظات تخمينية حول وظائف الأعضاء البشرية، حتى لو كانت بعيدة عن التجريب المباشر. فعلى سبيل المثال، أعلن أن عدد أسنان الرجل يفوق عدد أسنان المرأة، دون أن يتحقق من صحة ذلك عبر فحص حقيقي. ورغم هذا، كانت آراؤه العلمية راسخة التأثير لدرجة أن تحديها كان أمرًا نادرًا في تلك الحقبة.

هذا التصور حول القلب والعقل استمر لفترات طويلة، حتى جاء الطبيب والفيلسوف الروماني جالينوس ليُحدث تحولًا جذريًا. رفض جالينوس نظرية أرسطو عن هيمنة القلب على التفكير، وقدم رؤية جديدة كانت ثورية في ذلك الوقت؛ إذ اعتبر أن القلب هو موضع المشاعر فقط، بينما المخ هو المسؤول عن الأفكار والتحليل، والكبد هو مصدر الشغف والعواطف.

هكذا، قدم جالينوس منظورًا جديدًا يُعيد توزيع الأدوار بين الأعضاء الرئيسية. واضعًا المخ في مركز التحكم العقلي الذي نعرفه اليوم، بينما حافظ القلب على دوره الرمزي والمجازي كموطن للعاطفة.

دور العرب في دراسة القلب:

أول محاولة حقيقية لفهم دور القلب والدورة الدموية جاءت على يد العالم العربي ابن النفيس. الذي عاش في بلاد الشام وطور ملاحظاته الأساسية في مدينة دمشق. في كتابه “الموجز في تاريخ الطب”، قدّم ابن النفيس لأول مرة وصفًا دقيقًا لدور القلب وعلاقته بالدورة الدموية الصغرى. التي تؤدي فيها الرئتان دورًا محوريًا.

في هذا الكتاب، أوضح ابن النفيس كيفية انتقال الدم من القلب إلى الرئتين ليتجدد بالأكسجين. قبل أن يعود مرة أخرى إلى القلب ليتم ضخه في أنحاء الجسم. كانت هذه النظرية نقلة نوعية بالمقارنة مع الأفكار السابقة التي سيطرت على الفهم الطبي في ذلك الوقت، مثل نظريات أرسطو وجالينوس.

تميز ابن النفيس بدقة ملاحظاته واعتماده على التجربة المباشرة في دراسة وظائف الأعضاء، مما جعله أحد الرواد في هذا المجال، ووضع حجر الأساس للفهم الحديث لعمل القلب والدورة الدموية.

رمزية القلب في الحضارات القديمة وبعض الثقافات:

القلب، في العديد من الثقافات والأديان القديمة، كان ينظر إليه على أنه أكثر من مجرد عضو عضلي يضخ الدم. هذا التصور لم يقتصر على الحضارتين المصرية والإغريقية، بل تكرر في العديد من الثقافات الأخرى، حيث كان يعتبر القلب مصدر الأفكار والمشاعر، والعنصر الذي من خلاله يدرك الإنسان العالم من حوله. في معظم تلك الثقافات، كان ينظر إلى القلب باعتباره المركز الأساسي لوجود الإنسان.

باعتباره مركزًا للوجود الإنساني، كان القلب أيضًا قناة للتواصل مع العوالم الغيبية، تلك التي تتجاوز حدود الإدراك البشري. القلب، في هذه الرؤية، أشبه بجهاز استقبال روحي فريد من نوعه. في التراث المسيحي والإسلامي، يقدَّس القلب كمحراب خفي، حيث يُنظر إليه على أنه موضعٌ يطّلع فيه الإله على أدق الأفكار والنوايا، وهو رمز لقدرة الإله على الوصول إلى أعمق أسرار النفس.

هذا التصور لم يكن محدودًا بالديانات التوحيدية. في الهندوسية، يعتبر القلب “عين الحكمة الثالثة”، وفي الطاوية هو “عين الفهم”. حتى في أقدم النصوص السنسكريتية، يُشار إلى القلب بوصفه “الروح” ذاتها. هذه الرؤية الشاملة للقلب تجسّد ارتباطه العميق بالوجود الإنساني، ليس فقط كجسد مادي، بل كرمز للعاطفة والحكمة والفهم الروحي.

ختاما

القلب بوابة الروح والعقل، يبقى القلب رمزاً يجمع بين المشاعر والفكر عبر مختلف الحضارات والثقافات. سواء كان مركزاً للحياة الروحية في الأساطير القديمة أو مفتاحاً لفهم الجسم البشري. في الطب الحديث، يظل القلب أكثر من مجرد عضو عضلي، فهو رمز خالد للروح، العاطفة، والشجاعة. مع مرور الزمن وتطور العلم، سيبقى القلب دائماً محوراً يجسد صلة الإنسان العميقة بذاته وبالعالم من حوله.

كما ويمكنك أيضاً قراءة المزيد عن :

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى