فن ومشاهير

رافاييل أدجي ماين: أفريقيا التي سُلبت عيونها

ثمة عدم مبالاة حقيقي في الطريقة التي يرسم بها ماين شخصيات لوحاته (موقع الغاليري)

سرعان ما تحوّل رافاييل أدجي ماين، الفنان الغاني الذي استقرّ في مدينة كولونيا الألمانية قبل سنوات، إلى ظاهرة على مواقع التواصل الاجتماعي، خلال يناير/كانون الثاني الماضي، بعدما انتشرت لوحته التي رسمها للشاعرة الأميركية أماندا غورمان، أثناء إلقائها قصيدتها The Hill We Climb، في حفل تنصيب الرئيس الأميركي جو بايدن.

وبالطريقة نفسها، انتشرت بعد أيام قليلة، لوحته التي رسمها لكامالا هاريس، أثناء قيامها بأداء القسم، كنائبة للرئيس الأميركي المنتخب، ليتحوّل العملان إلى أيقونتين تعبّران عن أحلام جيل أسود جديد، يتطلع إلى مستقبل أكثر أماناً وعدلاً.

لم يكن غاليري Geukens & De Vil الفنّي، في مدينة أنتويرب البلجيكية، بمعزل عن الشهرة السريعة والمفاجئة التي حقّقها الفنان الغاني الشاب (مواليد 1983)، إذ سبق وتسبّب الإغلاق للوقاية من فيروس كورونا الذي فرضته البلدان الأوروبية، ومن بينها بلجيكا، في تأجيل افتتاح معرضه الأوّل لدى الغاليري الفلمنكي مرّتين، وهو المعرض الذي افتتح في السادس من مارس/آذار الماضي، ويستمر حتى 25 من إبريل/نيسان المقبل، تحت عنوان The Joy of My Skin.

وفي الأعمال التشكيلية التي ضمّها المعرض، نستطيع بوضوح تلمّس معنى الفرح الذي يقصده الفنان في عنوانه.

في الكلمة الافتتاحية للمعرض، تربط الناقدة البلجيكية، لين كرابس، سريعاً بين أعمال رافاييل أدجي ماين، المزهوّة بألوانها الفرحة، وما شهدته السنوات القليلة الماضية من صراعات عرقية في أنحاء مختلفة من العالم، لن يكون آخرها بالطبع مقتل جورج فلويد الوحشي، مختنقاً تحت ركبة رجل شرطة أميركي أبيض، في 25 مايو/آيار عام 2020 في الولايات المتحدة الأميركية، والذي فجّر غضباً دولياً كبيراً، وأطلق شعار “حياة السود مهمة” Black Lives Matter، اعتراضاً على الوحشية التي تنتهجها الشرطة الأميركية تجاه مواطنيها السود.

تقول لين كرابس: “مجتمع اليوم مليء بصور الوحشية ضد الملوّنين، لكنّها الوحشية المتأصّلة منذ عقود في الشخصية الأميركية. ألم تكتب الشاعرة إليزابيث ألكسندر عام 1994: كانت الأجساد السوداء التي تتألّم لأجل الاستهلاك العام مشهداً أميركياً لعدة قرون. ها نحن اليوم، وبعد 20 عاماً من هذه المقولة، نشهد سطوة التكنولوجيا التي تمكّنت من وضع كاميرا في كل يد، لتصلنا لحظات مقتل جورج فلويد الوحشية”.

وعلى الرغم من هذا الربط المباشر الذي تقدمه لنا لين كرابس في مقدّمتها للمعرض، خاصة ربطها بين حركة Black Lives Matter وبين الأعمال الفنية التي نشاهدها للفنان الغاني الشاب، إلا أننا سنتفهّم عنوان المعرض أكثر حين نلحظ الخلفيات اللونية الفاقعة التي يستخدمها ماين في لوحاته، مع ملاحظة أن جميع الوجوه التي يرسمها ممحوة الملامح، سواء كان أصحابها كباراً أو صغاراً. كلها وجوه طُمست ملامحها عن عمد، لكنها تتقاسم اللون الأسود الغامق عن طيب خاطر، كما لو أن ماين يستعيض عن صور الألم التي فجّرها مقتل جورج فلويد، بأجساد شخصياته التي نراها واقفة في تحد وكأنها تنظر إلينا، من دون عيون محدّقة فينا، أو نظرات تأنيب.

ربما ستتملكنا ابتسامة ما ونحن نقف أمام لوحات ماين التي تظهر في غالبها أفرادا من عائلته في العاصمة الغانية أكرا، أكثرهم أطفال بأزياء زاهية الألوان، برع الفنان الشاب في تقديمها إلينا في صورة كولاج من أقمشة محلّية الصنع، كأنه يعوضنا غياب الملامح.

في لوحته “عام الانتخابات” Election year، نشاهد أربعة صبية من الخلف، يعطون المشاهد ظهورهم، لا نرى منهم سوى سيقانهم وأذرعهم ورؤوسهم السوداء، كلهم يرتدون ملابس أفريقية صيفية زاهية الألوان، على خلفية زرقاء يخترقها خط برتقالي رأسي. ثمة عدم مبالاة حقيقي في الطريقة التي يرسم بها ماين شخصيات لوحاته، حتى أنه يحرص على ترك شخبطاته الطفولية تزين خلفياته، فنرى عصفوراً، هنا ووردة أو بومة هناك. في عمل آخر، نشاهد صبياً يجلس مسترخياً على كرسي بلاستيكي أرجواني غير عابئ بعيوننا.

وفي لوحة “انظر إليّ” Look at Me، يقف شاب لديه تسريحة شعر مميزة ينظر إلينا بثقة شديدة، كيف ونحن لا نرى عينيه؟

في لوحة أخرى عنوانها “أتمنى ألّا يكون هذا المنزل للبيع” Hope This House Is Not For Sale، يعيد رافاييل أدجي ماين ذكريات طفولته عن الضواحي القذرة ذات المباني المتداعية التي نشأ فيها في بلاده، مصوّراً ثلاثة أطفال يقفون متسائلين أمام خلفية حمراء فاقعة، فيما عنوان اللوحة مكتوب باللون الأصفر. حتى أنه يظهر على وجوه الأطفال التي ليس لها ملامح، لكنّنا نفهم القصة بشكل مباشر، أسرة مهدّدة بالطّرد، أو بيع منزلها تحت سطوة الظروف المعيشية الصعبة.

بهذه البساطة الآسرة، يقدّم لنا ماين شخصياته في أشد لحظاتها مصيريّة، ورغم هذا لا تزال خلفيات لوحاته زاهية الألوان، فرحة، في تحد وإقبال على الحياة غير قابل للكسر.

تتكوّن أعمال ماين التشكيلية في أغلبها من مواد بسيطة، فهو يزاوج بين قماش الكانفاس وصناديق الكرتون الملوّن وزيت الباستيل، كما بين الطباشير والأكريليك والأقمشة الأفريقية المطبوعة بالشمع. ولا نستغرب حين نقرأ في كتيب المعرض، أن الفنان الشاب قد افتتح مؤخراً خط الملابس الخاص به، منطلقاً في حلمه من ورشة عمل صغيرة في موطنه الجديد في مدينة كولونيا الألمانية، يديرها شخص واحد، هو ماين نفسه.

يرسم رافاييل أدجي ماين لوحاته على أي شيء، من ورق الكرتون المقوّى إلى إعادة تدوير الأقمشة، في عدد كبير من لوحاته، التي يحرص على عرضها من دون إطار، وفي ظل إغلاق كورونا، أصبحت الصناديق الكرتونية الخاصة ببضائع “أمازون” هي مادته المفضلة للرّسم، حتى أنه يترك الأشرطة اللاصقة عليها واضحة للعين، كعنصر فنّي لا يمكن التخلّي عنه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى