فن ومشاهير

“وحدة” فادية التنير تعيدنا إلى بيروت وبحرها

تعمل فادية التنير في مجال مسرح المقهورين (سامي موسى)

على الرغم من قسوة زمن وباء كورونا الذي فرض تغييرات كبرى على واقعنا الحياتي، بقيت هناك فسحات من الأمل والتأمل، بحكم العزلة التي تسبب بها الحجر الصحي الإجباري، الذي أتت نتائجه في حالات معينة بالمزيد من الإبداع والعطاء.
هذا ما حدث مع الفنانة اللبنانية فادية التنير، بعد أن كانت لمدة خمس سنوات تفكّر في العمل على عرض مسرحي خاص، تحكي فيه عن علاقتها بأفراد عائلتها وبمدينتها بيروت. التزامها البيت خلال فترة الحجر الصحي، خلق لها مساحة للجلوس مع نفسها، للبدء في كتابة أفكارها، إلى أن نضجت وصارت جاهزة للعرض أمام جمهور حي في نهايات شهر مايو/أيار الماضي.

“وحدة”/”وحدي”/ أم “وحدتي”؟ يحار الناظر للملصق الدعائي للعمل في تحديد عنوانه، حيث استترت التاء المربوطة خلف الياء (خط غالب حويلا)، لتخلق تلك الحيرة لدى القارئ، كما أرادت لها الفنانة أن تكون؛ هي التي باتت وحيدة في منزل عائلتها البيروتي منذ رحيل شقيقتها حنان عام 2009.
في “وحدتها” تحكي فادية التنير قصة نشأتها وحياتها في بيروت، المدينة التي تعشق ولا تتخيل حياتها من دونها؛ فهي المكان الذي خلقت فيه جميع ذكرياتها عبر ستة عقود من الزمن المفعم بروائح الأحبة في عائلتها والبيت الأول، ثم محطاتها مع المسرح؛ عائلتها وبيتها الثاني.

ففادية التنير هي ابنة المسرح اللبناني التي خاضت تجارب عديدة مع مخرجين لبنانيين هم من مؤسسي الحركة المسرحية في لبنان، كفائق حميصي، روجيه عساف، والراحلة سهام ناصر. وإلى جانب تجربتها كممثلة مسرحية، كانت لها أيضاً تجربة في الرقص في تسعينيات القرن الماضي مع “ستوديو 11″، مع المخرجة المسرحية رويدا الغالي. ولعل المسيرة الأقرب لفادية التنير قلبا وأداء هي مسيرتها في مجال مسرح الطفل، فهي محركة دمى وعضو دائم في فرقة أصدقاء الدمى، كما كانت من الأعضاء الأوائل للفرقة اللبنانية للدمى مع المخرج كريم دكروب، ولها تجربتها أيضاً في فن التهريج، وهي تطمح لبلورة عرض في ذلك المجال.
واليوم تعمل فادية التنير في مجال مسرح المقهورين، كمدربة في مجال المسرح وتحريك الدمى لدى عدة جمعيات ومبادرات محلية. “وحدتي” هي العرض المسرحي الفردي الأول لفنانتنا، تستقبل فيه عدداً قليلاً من الزوار… الضيوف هم جمهورها في بيتها الكائن في محلة المزرعة في بيروت وقد أفرغته الفنانة من بعض أثاثه ليتحول إلى خشبتها المسرحية الخاصة والحميمة جدا.

تلتمع عيناها وهي تتغنّى ببيروتها الحاضرة على شاطئ الرملة البيضاء، وفي أغنيات عمر الزعني وأحمد قعبور

تأخذنا فادية التنير في “وحدتها” عبر رحلة تجمع ما بين فن الحكواتي والأداء المسرحي المتميز بعفويته وبساطته وصدقه. تنتقل بضيوفها ما بين ردهة الاستقبال، غرفة الجلوس، الشرفة وغرفة المائدة. في كل من تلك المساحات، ذكريات كثيرة تشاركها فادية مع ضيوفها بتفاعل مرح تارة، وبدموع تارة أخرى. يرتسم لون البحر الأزرق في الأقمشة الموزعة في زوايا البيت، وتلتمع عيناها وهي تتغنّى ببيروتها الحاضرة على شاطئ الرملة البيضاء، وفي أغنيات عمر الزعني وأحمد قعبور. تذكر والديها بحب كبير، وتغص وهي تحكي عن شقيقتها حنان التي عاشت معها بعد وفاة والديها لمدة سبعة عشر عاماً قبل أن تفارق الحياة من دون سابق إنذار.
تقول الفنانة إنها كانت في البداية تود الكلام عن علاقتها بوالدتها وشقيقتها فقط، ولكن دائرة النص صارت تكبر لتشمل عائلتها، أصدقاءها وحياتها كامرأة وممثلة مسرحية من بيروت. هاجس كان يشغل بالها أثناء التحضير للعرض: “لماذا قد يهتم الناس بدخول بيتي وسماع قصصي الخاصة؟ وهل سيعنيهم الأمر حقاً أم أنه سيمر مرور الكرام؟”.

الإجابة حصلت عليها فادية من خلال ثمانية عروض قدمتها حتى الساعة ما بين 28 مايو/أيار و6 يونيو/حزيران، بمعدل عرضين يوميا، إذ فاق عدد حجوزات الحضور توقعاتها، ما اضطرها لإضافة عرض أخير في الخامسة من بعض ظهر العاشر من الشهر الجاري.

فقدت فادية التنير كما جميع مواطنيها، الأمل في أن تقوم الدولة اللبنانية بتحقيق تغيير ايجابي حقيقي

يُذكر أن العرض تم من دون فريق عمل رسمي، بل قام على استشارات من عائلة وأصدقاء الفنانة من فنانين وغيرهم. كما قدّم “بيت الفنان-حمانا” الدعم عن طريق تخصيص إقامة فنية في الشتاء الماضي لمدة أسبوع للعمل على تطوير النص. في العرض، مشهد يجمع الزوار ومضيفتهم في رواق البيت، حيث تخبرهم أن هذا المكان الضيق كان الملجأ من القصف أيام الحرب الأهلية اللبنانية، وإذ به يلعب الدور نفسه يوم انفجار مرفأ بيروت العام الماضي.
أمام هذا الواقع المرير للبلد، فقدت فادية التنير؛ كما جميع مواطنيها، الأمل في أن تقوم الدولة اللبنانية بتحقيق تغيير ايجابي حقيقي، ولا سيما في مجال دعم من كرّس حياته للفنون والثقافة. لكنها تطمح وتأمل بعمر مديد ومزدهر للمسرح في لبنان التي تكثفت أحلامها في حناياه مستشهدة بأغنية داليدا “أريد أن أموت على المسرح فهناك ولدت وهناك سأغني حتى النهاية…”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى