فن ومشاهير

Divas… كان يا ما كان فنانات وجميلات وموسيقى

لو لم ينشغل العالم العربي بجائحة كورونا وفرض قيود الحجر الصحّي وما رافقهما في الآونة الأخيرة من تخوّف جراء تزايد حملات التطعيم في العالم، لكان المعرض الفنيّ، الذي يشهده “معهد العالم العربي” بين 19 مايو/ أيار و26 سبتمبر/ أيلول بباريس حول سيرة مطربات عربيات صنعن مجد الغناء العربي في العصر الحديث، أهم حدث فنيّ تشهده الساحة العربيّة خلال هذه السنة.

يرصد المعرض الذي حمل عنوان “ديفاس” بصرياً مسار كوكبة من النجمات العربيات منذ عشرينيات القرن العشرين مثل: أم كلثوم، وفيروز، ووردة الجزائرية، وأسمهان، وصباح، وسعاد حسني، وليلى مراد وداليدا، مركّزاً على الدور الذي لعبته المرأة الفنانة داخل بيئة ذكورية أكثر تشنّجاً وتقليداً. حيث إنّ ظهور بعض المطربات في مصر ولبنان وسورية والجزائر، ساهم إلى حد كبير في تحرير هذه السطوة التي كان يُمارسها الرجل على فنّ الغناء.

غير أنّ ما يجعل معرض “ديفاس” مميّزاً هو أنّه لم يجعل من مواده البصريّة فقط عبارة عن صور فنيّة وفوتوغرافية ومقاطع فيديو نادرة ومقتطفات من أفلام أو توليف بعض من نماذج فنّ الأفيش و”بوسترات” ألبومات غنائية وسينمائية، بل إنّ القيّمين على المعرض بـ”معهد العالم العربي” كان همّهم الأساس، هو إبراز دور المرأة الفنانة في تأسيس التاريخ الاجتماعي للبلدان العربيّة، بحكم منزلة أضحت تتميّز بها الموسيقى في المشرق من قوّة في الثورة على الاستعمار وتحرير المخيّلة العربيّة من سلسلة التنميطات الاستشراقية، التي راكمها الاستيطان (شكل من أشكال الاستعمار) طيلة فترة وجوده داخل البلاد العربيّة.

وإذا كان المعرض، يتبّرم ظاهرياً من هذا البُعد التاريخيّ الصرف، فلأنّ طبيعة المعرض وأعماله الجماليّة، تجعل الفكرة غائمة في ذهن المُشاهد، بسبب سطوة البُعد الأيقوني، الذي تنطبع به هذه التجارب الفنيّة الكبيرة داخل الغناء والسينما في تأسيس مشروع فنيّ، مازال يحتفظ ببريقه الأيديولوجي، أمام صور ابتذال فنيّ ومظاهر كآبة بصريّة اجتاحت الفنون العربيّة المعاصرة إبان الألفية الثالثة.

لكن ما يُستشف فكرياً من أعمال المعرض الباريسيّ، أنّ من سمات الغناء والسينما في العصر الحديث، أنّهما ينبثقان من مشروع فنيّ عربيّ وحدوي، يلتقيان فيه ويتواشجان ويُكوّنان معاً ذاكرة فنّ عربيّ، يقرأ الفنّ في ضوء تحوّلات سياسية واجتماعية طاولت مفهوم الهوية داخل المنطقة ومدى حرص فنانات عربيّات على تحصين هذه الهوية عن طريق أغان وأفلام سينمائية ومسرحيات غنائية امتدّت طيلة قرن من المقاومة عن طريق الفنّ.

 إجرائياً، تأتي سياسة العرض وفق 4 فصول. أوّلها تتعلّق بمسار مغنّيات عربيات شرعن في تأسيس أفق مُغاير للطرب العربي، بين فترة الأربعينيات وحدود بداية السبعينيات، وهي مرحلة تاريخيّة، شهدت أوج فنّ الغناء داخل مصر وسورية ولبنان، بألبومات موسيقيّة تتفاوت جمالياً وتتداخل فنيّاً مع سياقات مختلفة من حيث الظاهر، لكنّها سرعان ما تتعانق وتتواشج من حيث الجوهر، لأنّ منطلقاتها التاريخيّة واحدة. إذْ ترتكز في مضامينها على بُعد سياسي قومي وعلى شكل من رومانسية نوستالجية.

أما السفر الثاني، فيقف عند وجوه فنيّة اكتسحت فضاء الشاشة الكبيرة بأفلام سينمائية صنعت ذاكرة المُتخيّل السينمائيّ العربي. ومن المعروف أنّ هذه المرحلة شهدت تنامي “السينما الغنائية”، التي شاركت في صناعتها مطربات عربيات، إذْ تُعتبر أغنى فصول السينما المصرية إنتاجاً، أولاّ: بحكم حظوة بصريّة تتميّز بها الصورة السينمائية والسحر الذي تُمارسه أيقوناتها على مخيّلة الإنسان البسيط. وثانياً: بسبب تشابه التيار الفنيّ (الرومانسي) الذي منه تنبثق الأسئلة والموضوعات، حتى أضحى الغناء إبان الستينيات وكأنّه تثمينٌ لسينما مصرية مغرقة في رومانسية ساذجة، أمام شبح السياسة، الذي سيُخيّم على فيلموغرافيتها بدءا من عام 1970 وهي السنة التي فيها ينتهي السياق الكرونولوجي للمعرض الباريسيّ.

هذا وقد خصّص القيّمون على التظاهرة الفنيّة الفصل الثالث لأبرز هذه الوجوه الفنيّة النسويّة والأدوار التاريخيّة، التي جسّدتها فوق خشبات مسارح عربية عملاقة، في إطار ما سُميَّ بـ”المسرح الغنائي” الذي جسّدت أدواره أسماء باتت صور أدوارها مشهورة داخل مصر مثل: ليلى مراد، سامية جمال، صباح، هند رستم، داليدا وغيرهم.

أما الفصل الأخير، فتطغى عليه النظرة المعاصرة، والتي حاول القيّمون من خلالها رصد مظاهر التجديد والإبداع في سيرة أيقونات الطرب الغنائي العربي الحديث ومدى تأثير ذلك في التجارب الغنائية المعاصرة على ضوء مفاهيم وألبومات وأفلام سينمائية.

إنّها بطريقة ما تمتحن جوهر هذا التراث الغنائي ونجاعته أو عدمهما في صياغة فنّ جديد يجمع بين رقّة العتاقة وسحرها وفتنة الحداثة وجماليّاتها، انطلاقاً من عرض فيديوهات الفنانة والمُصوّرة اللبنانية رندا ميرزا. إذْ رغم أهميّة هذه التجارب الغنائية العربيّة في تشكيل وعي ومسار الغناء العربي منذ العشرينيات، فإنّ المتأمّل للراهن الفنيّ، يُسجّل نوعاً من القطيعة الجماليّة مع هذه التجارب الغنائية.

ففي الوقت، الذي احتفت فيه بجماليّات الكلمة وبراعة الأداء والتزام المتن الغنائيّ سرعان ما تتلاشى هذه المعالم الجماليّة على أعتاب مرحلة معاصرة تمدح الأساليب وتقف مشدوهة أمام فراغ أشكال الفيديو كليبات، دون أنْ تُفكّر في إحداث ثورة فنيّة من داخل أساس الأغنية الحديثة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى