فن ومشاهير

رينيه ديك… حيوية الأداء

يُلازم حضورها الطاغي مُشاهداتٍ لاحقة لأعمالٍ مختلفة (فيسبوك)

يصعب نسيان الحضور الطاغي لرينيه ديك، الراحلة اليوم الأربعاء، في “الخادمتان” للعراقيّ جواد الأسدي (1995، مسرح بيروت). امرأة تُبهر الأحاسيس كلّها للمُشاهد، جاذبة إياه إلى عمق النصّ وروحه وفضائه، فتذهب وإياه إلى الأبعد والأعمق.

حضور مستمدّ من تاريخٍ وتجربة، يستحيل اخترالهما بكلماتٍ، تُكتب في رحيلها. لكنّ قولاً لجواد الأسدي نفسه يعكس شيئاً كثيراً من المرأة الممثلة: “لا أحد يُمكنه أنْ يحلّ مكان رينيه ديك في دور السيّدة”. بهذا، يجيب الأسدي عن سؤال غياب السيّدة (إحدى الشخصيات الـ3 في مسرحية جان جينيه، 1947)، في النسخة الثانية لـ”الخادمتان” (2010، مسرح بابل).

فرينيه ديك غير متمكّنةٍ حينها من تأدية الدور، والأسدي مقتنعٌ أنْ لا بديل منها. أما تعبير “السيدة”، المختصّ بشخصية مسرحية، فيحمل أكثر من معنى عن امرأة تتلاعب بالشخصيات ومصائرها، بما لديها من حُسن اشتغال مُتقن، وإمكانية توغّل تمثيلي في ذات الشخصية وروحها.

يُلازم حضورها الطاغي هذا مُشاهداتٍ لاحقة لأعمالٍ مختلفة، لن تُشارك رينيه ديك فيها كلّها. بهاء أدائها يُرافق المهتمّ بالمسرح طيلة مشاهداته تلك، فيُصاب المهتمّ بلعنة المقارنة غالباً.

في تسعينيات القرن الـ20، وبعض العشرية الأولى من القرن الـ21، تشهد بيروت حيوية ثقافية وفنية، يُساهم “مسرح بيروت”، ثم “مسرح المدينة”، في صُنعها. تحضر رينيه ديك، ومعها تُصبح المُشاهدة مختلفة. حركة جسدٍ، وملامح وجه، وملابس تتلاءم وسطوة “السيّدة” على “الخادمتين” كلير وصولانج (رندة الأسمر وجوليا قصّار في النسخة الأولى، وكارول عبود وندى بوفرحات في النسخة الثانية).

ورغم تشدّدها في بلورة سطوة “السيّدة”، بأداء باهر، تُدرك تماماً أنْ البراعة الأنقى والأهمّ تقتضي، أحياناً، إتاحة حيّز مطلوب لمن يُشاركها حساسيّتها الفنية الجميلة، فإذا بالأسمر وقصّار تُمعنان في إيجاد المُعادل التمثيلي الرائع لرينيه ديك، كأنّهما تستمدّان منها أيضاً بعض جمالٍ أساسيّ في تمثيلهما معها.

مُشاهدو “فيلم أميركي طويل” (1980)، رابع مسرحية لزياد الرحباني، يقولون بسحرها أيضاً، رغم أنّها غير مُتقدّمة على آخرين في أدوار البطولة. يكفيها أنّها تقف على خشبة مسرح، وأنّها تُشارك في كتابة تاريخٍ لبلدٍ منهار، يختصّ (التاريخ) بلحظة اشتغالٍ يُحيِّد الفنّ، أو بعضه على الأقل، عن ذاك الانهيار، مع أنّ بعض هذا الفنّ يستلّ حكاياته من انهيار البلد.

فديك تُتقن حضوراً على خشبةٍ، كإتقانها وقوفاً أمام كاميرا، يغلب عليها التلفزيونيّ، وجزءٌ من التلفزيوني يناهِض ثقافة استهلاكية باهتة، فإذا بأعمالٍ عدّة لها توازن بين رغباتٍ عميقة في عدم كبح حيويتها التمثيلية، ومتطلّبات اشتغالٍ تلفزيوني متماسك وعميق وبسيطٍ من دون تسطيح، وهذا حاصلٌ لاحقاً (بعض حلقات “من أحلى بيوت راس بيروت”، تأليف مروان نجار، 2001 و2003، نموذجٌ).

هذه التوازنات، ستحاول رينيه ديك تلبيتها سينمائياً، رغم هوسها الأول والدائم: المسرح. في ثمانينيات القرن الـ20، تُشارك في أفلامٍ لبنانية قليلة، بعضها يسعى إلى التوازنات نفسها، مع ميلٍ واضحٍ إلى إشاعة نَفَسٍ سينمائيّ، يغوص في راهن تلك المرحلة (الحرب الأهلية اللبنانية)، مُعرّياً انهياراتٍ ومخاوف وقلاقل، وعاكساً هواجس مخرجين متورّطين في الفعل السينمائيّ المخالف للتجاريّ والاستهلاكيّ.

بعض تلك الأفلام دليلٌ على مثابرةٍ ثقافية وأخلاقية وفنية لسينمائيين يريدون الكاميرا توثيقاً بصرياً، فيعتمدون الروائيّ والمتخيّل أداة كشفٍ وتفكيك، ضمن شروط تلك المرحلة وقواعدها وإمكانياتها.

مع ديك، هناك “الملجأ” (1981) لرفيق حجار، و”بيروت اللقاء” (1982) لبرهان علوية، و”المخطوف” (1983) لفؤاد جوجو. أمثلة تشي بمخالفة السينما لخراب بلدٍ واجتماعٍ وناسٍ، عبر التقاط نبض الحالة وانفعالات أفرادٍ مُقيمين فيها.

لاحقاً، يتعاون أسد فولادكار معها، في إنجازه “لما حكيت مريم” (2004)، أول روائيّ طويل له. مع برناديت حديب وطلال الجردي، تؤدّي ديك دور أم زياد (الجردي)، الممتلئة موروثاتٍ اجتماعية متزمّتة وقاسية، في رحلة عذابٍ ومتاهة وقلق، تخوضها مريم (حديب) وحيدة في مواجهة كثيرين. كأنّ ديك، بذهابها إلى أقصى النقيض فيها كامرأة، تُحيل الشخصية إلى خصوصيتها الاجتماعية، فيزداد حضورها طغياناً وجمالاً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى